إنشاء الأكاديمية الموريتانية للعلوم: كيف نعزّز من ظهور مجتمع علمي من أجل التنمية الشاملة والمستدامة؟
د. محفوظ طالب ولد سيدي،
أستاذ باحث في المعهد العالي لعلوم البحار
الأكاديمية البحرية (انواذيبُ)
لقد بات من المؤكد اليوم أنّ العلوم والتكنولوجيا والابتكار تشكل ركيزة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة لأي أمّة.
إن تحليل الأسباب المباشرة للتّخلف في بلدنا يكشف عن مجموعة واسعة من العوامل التي تقف خلف ذلك، لعل من أبرزها؛ غياب الحكم الرشيد، ضعف نظام التعليم والبحث العلمي والتقني، مما يعني نقصا في فُرص التّوظيف اللائقة والشاملة للجميع، وهو ما يؤدي حتما إلى توزيع غير متكافئ للدّخل الضئيل والثروة المحدودة الناتجة عن ذلك.
إن عدم القدرة المستمر على تطوير نظام تعليمي ناجح واكتسابِ ووضع وتكييف المعارف العلمية والتقنية اللاّزمة لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة والمستدامة، هو أيضا نتيجة لغياب الأبحاث الوطنية النّوعية التي تلبّي احتياجاتنا الخاصة، ممّا يُبرز أهمية التفكير الجاد في هذا الشأن.
لقد أصبح من الملحّ اليوم، قبل أي وقت مضى، وفي سيّاق سيّاسي جديد يبدو مُلائما، المُسَاهمة في ظهور مجتمع علمي وتقني وطنيّ رفيع المستوى، على استعداد للعمل على المدى الطويل بتفانٍ ومثابرة للرفع من القيمة المضافة لكل المشاريع التنموية؛ لذا ينبغي من الآن فصاعدا توضيح الملامح والخطوط العريضة والبنية الداخلية لهذا المجتمع العلمي، واختيار الأعضاء المُؤسّسين، الذين سيتحمّلون العبء الأوفر لترجمة كافة التوجهات الاستراتيجية المتّسمة ببُعد النظر والحاملة لأفكار تتماشى مع مستقبل زاهر؛ إنّه تكليف قبل أن يكون تشريفا.
من هذا المنظور، ستكون أكاديمية العلوم حال إنشائها في قلب الثّورة العلمية والتقنية الوطنية، في حين ستظلّ منفتحة إلى حدّ كبير على تجارب الآخرين، والتي تصل في بعض الأحيان إلى مئات السنين، منطلقة في ذلك من منطق التعاون، وهو المنطِق الوحيد الذي سيسمح للعلميين، الذين يجمعهم الرابط الفكري والثقافي، بالوجود والإسهام بدور حاسم في ميلاد أمّة جديرة بهذا اللّقب.
العلماء والأساتذة الباحثون: بطاقة تعريف الأمم
في مجال الموارد السّمكية، تتمتع موريتانيا بميزة فريدة، ويعتمد استغلال هذه الموارد على وجود علماء مؤهّلين لديهم الوسائل والمعدّات الكافية (على سبيل المثال، سفن أبحاث المحيطات التي تتوفر على مختبرات)، ويعتبر علماء المحيطات في مجالات الفيزياء والأحياء هم المحرّك للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في قطاع الصّيد البحري.
انطلاقا من اعتبار عدد الباحثين في علوم المحيطات نسبة إلى عدد السكان، والذي يختلف اختلافًا كبيرًا حسب البلدان، فإن الخلاصة الموجزة للتقرير1 العالمي حول الوضع الحالي لعلوم المحيطات في العالم، والتي تم تحريرها من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) واللجنة الأوقيانوغرافية الحكومية الدولية في عام 2017، تصنّف موريتانيا في المرتبة العاشرة، متقدّمة على الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية كوريا، وهو ما يدلّ على الأهمية التي تُوليها السلطات الموريتانية لهذا القطاع الاستراتيجي لاقتصادنا الوطني، لكنه يوضح أيضًا قدرتنا على اقتحام مجالات أخرى. فبالإضافة إلى الحوافز المتعدّدة الأوجه، فإن دعم الدولة سمح بضخّ أموال كبيرة لصالح مؤسسات البحث المعنية، خصوصا المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصّيد (IMROP)، مما يُعطي جاذبية كبيرة لهذه البحوث لجيل جديد من العلميين الطّموحين.
إنّ النتائج التي تحقّقت في هذا المجال، سمحت تدريجيا بزيادة الوعي لدى مختلف الجهات الوطنية الفاعلة وكذلك لدى الشركاء الأجانب، حول الدّور الأساسي لأبحاث المحيطات في التنمية الاقتصادية لقطاع مصايد الأسماك، وهو القطاع الذي حقق نموا سريعا في السنوات الأخيرة، لذلك فإنه من الأهمية بمكان، أن يتم الحفاظ على هذا النموذج التطويري للباحثين في مجال علوم المحيطات وتوسيعه ليشمل مجالات استراتيجية أخرى، كالصّحة والتعليم والزّراعة والثروة الحيوانية.
إنّ علماء أبحاث المحيطات الموريتانيين مسؤولون أمام الدولة الموريتانية بوصفهم موظفين لديها، وكذلك أمام الرأي العام وبعض الفاعلين المهتمين بالمجال، كما أن عليهم أيضا مسؤولية تجاه العلم، من خلال نشر نتائج أبحاثهم، ضمانا لحضور أفضل على المستويين الجهوي والدولي، ومع ذلك فإن الأبحاث العلمية المُوجّهة حسب الطلب، والمنفتحة بشكل كبير على الفاعلين الاجتماعيين، نادرا ما يتم نشرها في المِجلّات العلمية المشهورة، وذلك نظرا لارتباط تلك البحوث كثيرا بالسّياق المحلّي وبالتالي بعدها عن النماذج العلمية العالمية السائدة.
حاليا، وعلى مستوى البلدان النّامية، يتم اعتبار بناء منظومة علمية وتقنية جديدة تتخذ من العائد على الناتج الوطني سبيلا للتميز، لا تُفرّق هذه المنظومة بين مدى تطورها أو إسهامها في تقدّم المعارف وإنما ما تُحققه من خلق لفرص العمل وكذا العائد المادي والتأثير الاجتماعي والاقتصادي.
عادةً ما يكون الدّعم في اتخاذ القرارات نتيجة للخبرة وليس بالضّرورة نتيجة للبحث العلمي، إن الحدّ الفاصل بين مكاتب الدراسات ومراكز البحث العلمي عرضة لأن يصبح غير واضح المعالم، ولتجنب الوقوع في هذه الحالة الحرجة، فإن مؤسسات البحث العلمي التطبيقي، كالمعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد، تقوم بتخصيص حوالي 10٪ من وقتها للأبحاث الأساسية، إن النتائج المُتحصّل عليها من خلال هذه الأبحاث، والتي لا تظهر إلاّ على المَدَيين المتوسّط والبعيد، تُسهم في تقدّم المعارف، وتفتح المجال أمام عديد التطبيقات المهمة، لكن وبدون المساهمة الفورية في عملية النمو، يمكن لهذه الأبحاث العلمية الأساسية، والتي تعتبر نظرية، أن يُنظر إليها من طرف مختلف الفاعلين في المجال بما في ذلك السلطات العمومية، على أنها مجال لصرف الأموال أكثرَ منها مجالا للاستثمار.
إن إيمان مختلف الجهات الفاعلة في ميدان النّمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام والشامل بمحورية البحث العلمي، أيّا كانت طبيعته، هو في الحقيقة العامل المُوحّد والمشكل لمظلة جامعة للنخبة العلمية، في شكل جمعيات علمية أو أكاديميات للعلوم، من أجل خدمة الوطن، ومن الجليّ جدا، أن هذه الشبكات يجب أن تتّصف بالميزة العَمَلية القوية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Global Ocean Science Report : The Current Status of Ocean Science around the World – Executive Summary (IOC Policy Series 2017-1; IOC/POL/2017/1
من الجمعيات العلمية إلى أكاديمية العلوم
في أعقاب الجهود المشجعة للتفوق والتميز العلمي، شرعت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في إصدار نصً قانونيً ينظم عمل الجمعيات العلمية، وفي هذا الإطار ظهرت في السنوات الأخيرة عدة جمعيات في مجالات مختلفة، بغية الوصول إلى الوضعية القانونية للجمعيات العلمية حال استيفاء جميع المتطلبات والشروط المطلوبة.
إنّ الهدف الأول لهذه الجمعيات هو تطوير وترقية البحث العلمي، كما هو الحال بالنسبة لأكاديميات العلوم، وهذه الجمعيات متخصصة بشكل عام في مواضيع محدّدة (الجمعية الموريتانية للكيمياء، الجمعية الموريتانية للتنوع الأحيائي والنظم البيئية البحرية والسّاحلية...) وتمتلك خطط عمل سنوية، كما تسعى لوضع مخططات استراتيجية خمسية للمساعدة في توجيه أنشطتها، إنّ خطط العمل هذه تُتيح لكلّ واحدة من هذه الجمعيات رؤية مستقبلية من خلال وضع الآليات التي تُمكّن من بلوغ أهدافها.
إنّ المساهمة في بناء نظام بحثي متطوّر هو في الحقيقة مسار طويل ومكلّف، ونتائجه تظلّ غير مضمونة نوعا ما، ولكنّ بناءَ هذا النظام هو الطريق الوحيد للخروج من اعتمادنا على الآخرين في المجال العلمي والتقني والاقتصادي، فقد أثبت الاعتماد على الآخرين علميّا وتقنيا قصوره، فوحدها تنمية وتطوير القُدرات الوطنية، وخلق الظروف المواتية لتألّقها، هو القادر على إعطاء الحلول المناسبة لمشكل التخلف، ومن ثمّ ضمان الاستقلالية التامة لبلدنا.
إنه ممّا يدعو للارتياح ملاحظةُ تزايد الاهتمام من طرف السّياسيين الموريتانيين في الآونة الأخيرة لقضايا العلوم والتقنيات والابتكار، وهو اهتمام تم أيضا بمبادرات من طرف المنظمات الإقليمية والدّولية، خصوصا مصرف التكنولوجيا للبلدان الأقل نموا2، وهو منظمة عالمية تابعة للأمم المتحدة؛ في هذا الإطار احتضنت انواكشوط في 25 و 26 سبتمبر الأخير، ورشة شبه إقليمية حول تعزيز الأكاديميات الوطنية للعلوم في البلدان الأقل نموا، بدعم من أجندة 2030، لقد حصل لي الشرف بالمشاركة في هذه الورشة، وقد أعلن معالي وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتقنيات الإعلام والاتصال في افتتاحه لهذه الورشة عن خبرين سارّين: الأول؛ استفادة البحث العلمي الوطني من ميزانية تقدّر بمليوني دولار أمريكي؛ والثاني، أن البلد سيستفيد أيضا من تحسّن معتبر في الولوج للأنترنت (ستتم مضاعفة سرعة الأنترنت الحالية عشرين مرة)؛ في الحالة الأولى، حتى مع الأخذ في الحسبان أن البحث العلمي يحتاج ميزانيات كبيرة، وأن هذا المبلغ يكفي فقط لمؤسسة واحدة من مؤسسات البحث العلمي الجديرة بهذا اللقب لأداء مهامها بشكل جيد، فإن الأمر يتعلق بخطوة عملاقة مقارنة بالوضعية الحالية، في الحالة الثانية فإن الاستفادة من ربط عال بالأنترنت بأسعار أكثر جاذبية سيسمح بالنّفاذ إلى عدّة خدمات جديدة، على سبيل المثال، الحكامة الرشيدة التي تحدّثنا عنها في بداية هذه المساهمة تتطلب هي الأخرى اكتساب قدرات اتّصال حديثة مُستخدمة بشكل أمثل، حالما تتوفر هذه الخدمات، فإن هذه القدرات يمكن توجيهها لتحسين جودة التعليم العالي والنّفاذ إلى المعارف والمعلومات العلمية و
إنّ من المسلمات اليوم ألاّ وجود لبحث علمي متطوّر بدون تكوين نوعي، ولا يوجد تكوين متميّز بدون أبحاث علمية متطورة أيضا، إن الأمر في الحقيقة أقرب إلى جعل كلّ مختبر أو ورشةِ عمل أرضًا خِصبة للإبداع والتّطوير بقيادة وتوجيه من مؤسسات الابتكار، إلى جانب تعزيز قُدرات العلميين وأصحاب المشاريع من أجل المشاركة اليومية بالمعلومات الهامّة والجوهرية.
خلال هذه الورشة، استعرض اثنان من البلدان (السّودان ومصر) التي تمتلك أكاديميات للعلوم تجاربَهُما في هذا المجال، أما موريتانيا وتشاد، واللّتان لا تتوفران بعدُ على هذه المؤسسات، وتتقاسمان سيّاقات متشابهة، فقد قدّمتا خلال الورشة مؤسساتِ البحث العلمي والتّعليم العالي لديهما، وهو التقديم الذي اقتصر على الوضعية الحالية والتوقعات في هذا المجال، لكن على الأقل أشارت العروض الُمقدّمة إلى أن البحث العلمي والابتكار ينبغي أن يكون محرّكا للتنمية لأي من بلداننا.
تمتك السودان 246 مركزا متخصصا للبحث والابتكار وتغطّي تقريبا كل التّخصصات، وثلاثة عشر مركزا من مراكز الامتياز، وتعتبر العلوم والتكنولوجيا والابتكار محرّكات أساسية للتنمية الاقتصادية للبلد، وقد صاحبَ تطوير هذه المؤسسات تغييرات مؤسسية وتنظيمية بغية تطوير الصّحة وتحقيق رفاهية المواطنين وكذلك زيادة الانتاجية والتخفيف من الفقر وتحسين الأداء الصناعي والنمو الاقتصادي.
أما في مصر، فتعتبرُ أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجي ASRTمؤسسة ذات هدف غير ربحي، تابعة لوزارة البحث العلمي، تم إنشاؤها سنة 1971 كهيئة وطنية مسؤولة عن العلوم والتكنولوجيا، تجمع الأكاديمية عِلميين بارزين من مختلف الجامعات ومعاهد البحث، وكذلك القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية وبعض صنّاع القرار وكبار العلماء المصريين في الخارج، وذلك لتحليل مشاكل التنمية في البلد واقتراح وإجراء الدراسات العلمية، إنّ هذه الأكاديمية العلمية مسؤولة أيضا عن التخطيط الاستراتيجي ووضع خرائط الطريق والقيام بالدراسات الاستكشافية وكذلك صيّاغة التوصيات العلمية المستقلة لصالح الحكومات وصُنّاع القرار.
تتكون هيكلة الأكاديمية من مجالس متخصّصة ولجان وطنية وكذلك مجموعة الأكاديميين العلميين الشباب، وتتألف من حوالي 800 من أفضل العلميين المصريين، وانطلاقا من تنوّع التخصصات التي تترجم حضورا كبيرا للأكاديميين، فإنّ الأكاديمية تُسهم في الإشعاع العلمي والاقتصادي للبلد من خلال التظاهرات العلمية التي تنظمها بشكل دوري، وكذلك من خلال التّقدم التكنولوجي والتّعاون الدّولي فيما يتعلق بنقل وتبادل الخبرات والتجارب للاستفادة بشكل أفضل من الأبحاث التي يتم القيام بها محليا وأيضا على مستوى العالم في كل الميادين. إن مواصلة نشاط الأكاديمية منذ تاريخ إنشائها، والشهرة الكبيرة لبعض الأكاديميين ومؤلفاتهم المنشورة، وكذلك النشرات الدّورية بما في ذلك نشرة مجلة العلوم تمثل كلّها نقاط قوة لهذه الأكاديمية، مستفيدة في ذلك من كل قطاعات المجتمع، ومحافظة على روابط وثيقة وقوية مع الجامعات.
بعد يومين من المشاورات والنّقاشات الحيوية، اعتبر المشاركون أن إنشاء أكاديمية للعلوم والتكنولوجيا والابتكار في كل من موريتانيا وتشاد يمثل أولوية قصوى وعلى وجه الاستعجال، ففي كل مكان تعمل فيه الأكاديميات العلمية بشكل جيّد، فإن هذه المؤسسات تؤدي دورا أساسيا في التعريف بالتّميز العلمي والتقني لأي بلد.
إن المناخ السّائد الآن في كل من موريتانيا وتشاد ليس مؤاتيا لازدهار وتطوّر العلوم، مما تسبّب في هجرة الكفاءات لصالح دول أخرى توفر بيئة بحثٍ محفّز، ومسار مهني مرضٍ، مما يشجع الإبداع ويكافئ على التّميز العلمي.
إن تكثيف روابط الشراكة مع أكاديميات العلوم في العالم، سيُعطي دفعا لأنشطة البحث العلمي والتقني والابتكار لدى هذه الأكاديميات الحديثة، فحين نطبّق مبدأ الجدارة والكفاءة كطريقة للحكامة، فإنّ علميينا سيستردّون ثقتهم في قُدراتهم العلمية، وسيبنون نظاما معاصرا للبحث العلمي، وسيكون بذلك مصدرا للتّقدم والنمو والأمن الاجتماعي.
إن الابداع والابتكار يعتمدان في الحقيقة على الاستثمار في بحوث التّنمية، وكذلك الأهمية الممنوحة من طرف السلطات العمومية وقدرات المجتمعات العلمية الموريتانية، والتي سيتم تنظيمها في إطار الأكاديمية الجديدة، وهو ما من شأنه أن يعطي دفعا وحيوية لخلق مردودية متنامية من خلال الأخذ بالتكنولوجيا الملائمة Lowcost (أي تكنولوجيا متاحة وتسمح بالإنتاجية بكلفة أقل، لكنها ليست تكنولوجيا رخيصة).
أختم هذه المساهمة بمقولة لأحد المدراء السّابقين لليونيسكو، حيث يقول: إنّ التكنولوجيا (وبالتالي التنمية) هي العلم حين يُصبح ثقافة.