ثلاثة أشهر متواصلة تتوقف فيها سفن صيد السمك غير السطحي عن الصيد ...... هي سابقة لم تحدث من قبل وهي أمر لم يكن في وارد أن يكون بعد سنوات من إعتماد سياسة تسيير المصائد علي أساس الحصص.
لماذا الآن ودون سابق إنذار؟
مواطن الخلل معروفة والقائمون علي القطاع يدركون جيدا حيث هي والفاعلون به أكثر دراية لها من الجميع والكل يتظاهر بأنه يبحث عن ضالة لا تسعفه دروب البحث الوعرة والمتداخلة والطويلة في تلمس طريق آمن للوصول ولكنه يعرف أين هي !!!!!!
لقد تغافل الجميع وتصامم الجميع حتي أنبأ البحر بحاجته للإنعاش فخاف الكل علي مصالحه من إمكانية توقف الإنتاج نهائيا في واحد من أكثر المخزونات حيوية ومردودية وأعلاها قيمة تجارية....فقالوا بتوقيف مجهود الصيد ثلاثة أشهر قابلة لأن تكون أكثر والبعض يشك في أنها قد لا تجدي نفعا في استعادة السمك لقدرة التوالد الضرورية لجعل الإنتاج ممكنا....
تتوزع المصائد الموريتانية المستغلة من حيث الموطن إلي نوعين أساسيين:
مصائد السطح
مصائد الأعماق
ويحتوي كل نوع من هذه المواطن علي عدد كبير من الأنواع ويعيش الكل في بيئة بحرية..... للحياة بها قواعد معلومة وللموت فيها طرق كثيرة وأسباب متعددة كما هو حال كل المنظومات البيئية.....وتتبع الحياة فيها سلاسل غذائية ترسمها قواعد التفاعل الحيوي الدائم بين المفترِس والمفترَس وبين هذه السلاسل وديناميكية التيارات المائية وغيرها من العناصر الفاعلة في رسم الحياة اللجية التي لم تعط بعد الكثير من أسرارها رغم التطور الهائل في وسائل البحث والتحليل.
تقدمت بلادنا خطوات كبيرة في مجال بحوث المحيطات والصيد بفضل خبراء وطنيين ذوي كفاءات عالية وتحصيل علمي تخصصي ممتاز مما مكن مراكزنا البحثية من تقديم نماذج رياضية لمقاربات تسييرية مبنية علي معطيات تتتبع حركية المخزون وتفاعل المصائد فيما بينها بحكم عوامل التفاعل البيئي والديناميكية المتواصلة بفعل الإنسان ومجهود صيده المتنوع من حيث طبيعة الإغارة وقدرة السحب والطبعة الإيكولوجية الناتجة عن ذلك.
تتشارك بلادنا وجاريها الشمالي والجنوبي في نظام بيئي بحري واحد ويمتاز المقطع الساحلي الوطني بخصائص أكولوجية تجعل منه واحدا من أكثر المناطق وفرة في المصادر البحرية بأنواعها المختلفة وبكتل حيوية هائلة........ورغم ذلك ينتج قطاع الصيد في المغرب ثلاثة ملايين فرصة عمل وفي السنغال ما يربو علي ستمائة ألف وفي بلادنا لا ينتج القطاع سوي ستين ألف فرصة عمل وفق أكثر الإحصائيات تفاؤلا !! ويخرج من شواطئنا كل سنة أكثر مما يخرج من شواطئ الجار الشمالي وأكثر من ضعفي ما يخرج من مياه الجارالجنوبي!!
صحيح أن غالبية الموريتانيبن لا يملكون ثقافة راسخة في صحبة السواحل ولا ألفة كبيرة مع ثرواتها مما قد يفسر التأخر الحاصل في الإهتمام الرسمي بهذه الثروات والذي لم يبدأ إلا مع ما يعرف ب "السياسة الجديدة للصيد" عام 1979 ولكن ذلك لا يكفي وحده لتفسير الفشل الكبير في دمج هذا القطاع الحيوي في الإقتصاد الوطني.
ورغم مرور عقود علي هذا الإهتمام الرسمي والحاجة الماسة للبلاد في استغلال مستديم وفعال لهذه الثروات ورغم تحقيق الكثير من النتائج الإيجابية إلا أن تراكم الفشل الذي تخللته انتكاسات كبيرة وما نتج عن ذلك من تناقص المخزونات بفعل تصامم السلطات وجشع المنتجين وحاجة دول الطلب أدي إلي أن وصلت بعض العينات إلي درجة "الإستغلال المفرط" وبعضها الآخر ل "خطر الإنقراض" في حين أصبحت بعض العينات التي كانت بوضع صحي ممتاز من الناحية البيئية تعطي إشارات اعتلال صحي مخيفة كما هو حال بعض عينات أسماك السطح.....ولكن الخطر الأعظم يبقي ما يتعرض له مخزون الأخطبوط.
هنا بدأت البلاد في تجربة "نظام الحصص" لمعالجة الإختلالات الحاصلة والحيلولة دون حصول اختلالات أخري قد تكون في الأفق وقد تكون آثارها غير قابلة للإستئناف.....وفشِل نظام استغلال مستديم يعتبر هو الأحسن من بين كل نظم استغلال الثروات المتجددة لحد الساعة !!!
فما هي أسس نظام الحصص ؟
يقوم الخبراء أولا بدراسة علمية دقيقة لدورة الحياة لكل نوعية ولكتلتها الحيوية داخل موطنها البيئي.
يموت السمك بفعل الصيد وبفعل الموت الطبيعي(لشيخوخة أو لمرض) وبفعل الحوادث العرضية البيئية وبفعل التعرض للإفتراس من أنواع سمكية تعتاش عليه.
يعكف خبراء الصيد والإقتصاد البحري علي تحديد حجم هلاك كل نوع من خلال معرفة حجم الوفاة الناتج عن كل هذه الأسباب وحينها يتم تحديد المخزون المسموح باصطياده من كل نوع حسب المعادلة التالية:
الكمية القصوي المسموح باصطيادها = حجم تجدد الثروة - حجم الهلاك (الموت الطبيعي + الموت بفعل عوامل البيئة + الموت بفعل افتراس الأنواع الأقوي في السلسلة الغذائية للبيئة البحرية ).
فكيف يمكن أن تواجه المخزونات السمكية خطر الإنقراض باعتماد نظام الحصص وهو النظام الوحيد الذي يضمن أن يبقي ما يخرج من البحر أقل مما تلد الأسماك !!!!!!
فلماذا تنهار مخزوناتنا السمكية إذن بعد إعتماد سياسة مصائد مبنية علي الحصص وهو أحسن نظام لتسيير الثروات المتجددة لحد الآن!!!!
لا يمكن تبرير فشل نظام الحصص في تسيير المصادر المتجددة إلا لأحد الأسباب التالية:
-أن تكون الدراسات المحددة لحجم المخزون المسموح باستغلاله غير دقيقة.....وهذا غير وارد نظرا للقيمة العلمية والتحليلية والمقاربات عالية الدقة لمخرجات مركز بحوث المحيطات والصيد في بلادنا.
-أن يكون المجهود المرخص به يتجاوز حجم المنتوج الأقصى للإستغلال المستديم وهذا أيضا لا يبدو أنه حصل إذ كل المعلومات المتوفرة تفيد بتطابق المسموح به نظريا مع القدرة البيولوجية للتجدد المستديم للثروة البحرية.
- أن تكون الرقابة علي مجهود الصيد رقابة غير فعالة.....
الخلل في هذه الحالة لا بد أن يكون علي المستوي مجهود الصيد طبيعته وخصائصه الفنية والتداخل العرضي أو المتعمد بين مختلف القطاعات الفرعية للمصائد.......مكمن الداء قريب ولكن لا بد من مواجهة حازمة خاصة فيما يتعلق بمصائد الأعماق ذات القيمة التجارية الكبيرة والتي وصلت لدرجة خطر الإنقراض كما حصل لسمك "القد" في كندا وشمال الكرة الأرضية بعدما ظل ردحا طويلا من الزمن عنوانا لرغد العيش و مأمنا غذائيا لسكان تلك الأقاليم......
المشكلة في الرقابة وفي الرقابة وحدها والجميع يعرف أين يوجد مصدر الداء ولكن الجميع يتصامم عن الحقيقة لأن الدولة ككيان لا تهمه لا في حاضرها ولا في مستقبلها.
يمكن مراقبة المجهود فور إعطاء الرخص ويمكن مراقبة المجهود من خلال المناطق المسموح بولوجها ولكن الأهم من كل ذلك والأضمن هو مراقبة حجم الكميات المصطادة علي مستوي التسويق.....فلماذا تغيب المعلومات أو لماذا يصمت الجميع صمت القبور أمام كارثة وطنية كبري كالتي يواجهها قطاع الصيد !!!!!!
تتعرض مصائد الأعماق لمجهود صيد من السفن الأوروبية ضمن الإتفاق الموريتاني مع الإتحاد الأوروبي والسفن الوطنية التي تعود ملكيتها لرجال أعمال موريتانيين وسفن كثيرة وطنية في جانبها الرسمي وأجنبية في تسييرها ومردودية عائداتها وأخيرا زوراق الصيد التقليدي.
لما استشعر خبراء مراكز بحوث المحيطات والصيد الخطر الكبير المحدق باستدامة إنتاج الأخطبوط أوصوا بتخفيف المجهود.
لكن السلطات اكتفت بإستثناء هذه المصائد من الإتفاق مع الإتحاد الأوروبي وهو قرار وإن كان له أثر لا محالة إلا أنه يبقي ناقصا إلي حد كبير إن لم يشمل ذلك التوجه كل السفن الأجنبية.
كما أن مراقبة السفن مراقبة دقيقة في عرض البحر سيمكن من ضبط عمليات التحايل الكبيرة التي يقال إنها تقع في عرض البحر : بعض السفن حين تشعر بتجاوزها للسقف المسموح به تضطر - مخافة توقيف رخصتها - لبيع الفائض في عرض البحر لزوارق أو سماسرة خارج دائرة الرقابة.
هنا يتواصل المجهود الزائد فيزداد الضغط علي المخزون فتنهار مصائد الأخطبوط.....
مقترح حلول
إن أول خطوة ينبغي القيام بها هي مراجعة القوانين المتبعة في "تجنيس" السفن التي تصطاد سمك الأعماق لمعرفة ما إذا كانت يحق لها الإستفادة من الميزة التي تحظي بها حصريا السفن الوطنية لولوج هذا المخزون الآخذ في الإنقراض.
أما الخطوة الموالية فتكمن في تحديد حصة محددة للصيد التقليدي يعهد تسييرها إلي اتحادية الصيادين التقليديين وتُلزم هذه الاتحادية بتقديم كشف دوري عن حجم منتوج منتسبيها ومتابعة ما تبقي من حصة سنوية لها.
الخطوة الثالثة تجريم كل بيع يحصل في عرض البحر ومعاقبة الأطراف الضالعة فيه بسحب الرخص وغرامات رادعة.
وأخيرا إلزام الشركة الموريتانية لتسويق الأسماك المسؤول الحصري عن تسويق الأخطبوط بتقديم كشوف شهرية عن المنتوج حسب النوعية وحسب المنتجين ومتابعة ما تبقي من حصة هذا وذاك والطلب من السلطات العمومية بالقيام بما يلزم في هذا الصدد.