تعرف موريتانيا هذه الأيام جملة من التناقضات السياسية الهامة في تاريخها الحديث، تعتبر إلى حد ما إنتاج مجموعة من التطورات المتلاحقة التي كرستها سياسة الفراغ واحتكار الشأن العام من قبل زمرة، أثبتت لنفسها عبر كافة الحقب الماضية، أنها النخبة السياسية المسيطرة وبلا منازع وكأنها بذلك تضفي نظرة شمولية متكاملة على الإرث السياسي في البلد.
منذ نشأة الدولة الموريتانية المستقلة، حكمت البلاد أوجه متعددة من خلال أساطير متتالية يتفاوت حجمها انطلاقا من مرجعيتها القانونية ومشروعها السياسي والاجتماعي، المتكامل اتجاه المجتمع، النابع من خصوصية البلد الثقافية ومميزاته الحضارية التي تفرض نفسها في معادلة التغيير والتجديد.
لقد ظل الشأن العام حكرا وبلا منازع علي فئة قليلة، منغلقة في أحيان كثيرة علي نفسها ومنفتحة حسب ظروف الزمان والمكان تارة. رغم ما تنطوي عليه من تناقضات إيديولوجية متنافرة، حافزها الوحيد هو التمسك بالسلطة عبر بوابة نظرة عجوزية، لم تعد اليوم قابلة للتطبيق في عالم متحرر، تمتلكه الليبرالية الاقتصادية والتعددية السياسية، المطبوعة بحرية الفكر والتعبير وهاجس العلم والمعرفة والتطلع إلى غد أفضل، ينعم فيه الإنسان الموريتاني باليمن والرفاهية، قاسمه المشترك المصلحة العليا للبلد، المتنوع والمترامي الأطراف، المتشعب المصالح، نتيجة لاختلافها من جيل إلى جيل، بغض النظر عن المشارب الفكرية والتفاوت العرقي والخصوصية الجهوية والقبلية التي تعد المقياس الأصيل لبنية المجتمع التقليدي.
فلقد عرفت موريتانيا خلال مسيرتها السياسية تطورات دستورية هامة، عكست مدى ما تحظى به فكرة الديمقراطية من احترام داخل أوساط النخب السياسية التي تعاقبت على الحكم في هذا البلد، الذي تميز منذ البداية بإرادة جيل من الشباب الذين قادوا الحراك السياسي والاجتماعي الذي توج بالتعددية الفكرية، مستنبطة من النهج العربي حيث التيار التحرري والمد القومي من جهة، والنزعة الإفريقية التي تجد صدى في الضفة والاحتكاك الإقليمي من جهة أخرى.
هذه الوضعية المتميزة قادت إلى تحول سياسي توج بالتعددية الحزبية التي أقرها دستور 20 مايو 1961م، إلا أن النظام القائم سرعان ما اتجه نحو الأحادية الحزبية وأقرها طيلة عقدين من الزمن، مما أدى إلى خنق الحريات العامة واحتقان سياسي عميق، أنتج نزعة الإصلاح والتغيير لدى النخب السياسية وقادة الرأي. مما أوصل البلد إلى طريق مسدود، أستوجب من الجيش أخذ زمام الأمور صبيحة العاشر من يوليو 1978 م، من خلال عناصر شابة لم تحمل مشروع مجتمع كما هو الحال لتجارب بلدان المشرق العربي وحتى بعض بلدان المغرب العربي. إنما كان مقصدهم تخليص البلاد من حرب الصحراء وتقويم الاقتصاد الوطني وقيادة البلاد نحو مؤسسات ديمقراطية لاحقا.
لقد شكلت المؤسسة العسكرية في موريتانيا منذ 1978 م ـ 1992 م، النخبة السياسية التي سيطرت على الأوضاع السياسية العامة، حيث تضع الاختيارات الكبرى للدولة، فهي التي تحدد الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتوخاة وتسهر على تنفيذ البرامج.
نتيجة للتحولات العميقة التي عرفها العالم، حيث نهاية الحرب الباردة واندثار المعسكر الشرقي وتلاشي الأنظمة الفردية الإفريقية بالإضافة إلى البعد الاقتصادي المتمثل في دخول المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على خط نهج استثماري جديد، ارتبط بالتمويلات الخارجية لكافة الدول النامية، منذ قمة لابول بفرنسا، بالإضافة إلى الأصوات الداخلية المنادية بالإصلاح والتغيير، قررت النخبة الحاكمة قيادة البلاد نحو نظام ديمقراطي تعددي في إبريل 1991م على الرغم مما صاحبه من إخفاقات متلاحقة تسارعت إلى حد نهايته.
إن المتتبع للأحداث منذ الفترة الانتقالية الأولي سنة 2005 م، يدرك وبجلاء مدى عمق الأزمة التي توالت في أذهان النخبة السياسية الضالة، التي أكدت التجربة مدى هشاشتها وضعف تركيبتها وعدم قابليتها للانكسار أمام إرادة الشعب الباحث عن التغيير والإصلاح، كما أثبتت هذه الحقبة مدي ليونة هذه النخب مع التأقلم مع رياح التغيير التي اجتاحت العالم وما تولد عنها من الثورات المفاجئة، التي أذهلت أكثر من مراقب، كللت بالربيع العربي الذي فرض نفسه كمعادلة إقليمية، بل مقاربة أمنية كان لها ما بعدها علي كافة المستويات والأصعدة. هذا الربيع العربي الذي شكل مأزقا خطيرا، كان قد هيأت له عدة أوساط خارج العالم العربي منذ نظرية نكربونتي ورفاقه من الفلاسفة الغربيين، أفضي إلى شراكة عميا مع بعض النخب العربية التي امتطت وسائل التواصل الاجتماعي ضمن محيط عربي غير محصن تماما للاختراقات الرقمية، مما أوقع الكارثة التي راحت ضحيتها أغلبية الشعوب العربية التي أصبحت أنظمتها اليوم في خبر كان. حينها حصلت الكارثة بكافة المقاييس كالحروب الأهلية، الغزو الأجنبي، الخراب الاقتصادي، الدمار المؤسسي لبنية الدولة الوطنية. على الرغم من كثرة المحاولات اليائسة لمعالجة واقع أليم انطفأت ناره في بعض البلدان وخمدت تحت الرماد في أغلبية البلدان العربية.
اليوم بعد مرور أزيد من مأمورية رئاسية على حركة التصحيح وما صاحب ذلك من خطوات هامة في تاريخ هذا البلد، لم يعد بالإمكان أمام هذه النخب المنتهية الصلاحية، سوى التفكير بالطرق والوسائل الكفيلة بوجود الضمانات لتراهن على مستقبل شعب بأسره عبر وسائل العنف والقوة والضرب المجرح للمقدسات الوطنية، كوسيلة للمشاركة السياسية والظهور الموسمي، لاختطاف الأنظار وملء نصف الكأس الفارغ المحتوى على الرغم من تناقضها، ما دامت عادات وتقاليد هذا الشعب لا تقبل بأعضاء غريبة علي قيمه، لم ولن يقبل بها جسم شعب مسلم، تحكمه الأعراف والتقاليد ويتمسك بالدين الإسلامي كمصدر وحيد للتشريع ومنهل روحي وأخلاقي للنفوس الطيبة والكريمة.
إن القطيعة مع ممارسات الماضي تمليها أكثر من حتمية، على الرغم من الطابع التكاملي بين خبرة وتجربة الطبقات المنصرمة العهد مع الطاقة الحية والقوي الفاعلة في حركة التجديد والتغيير من الفئة الشبابية التي يعول عليها اليوم أكثر من أي وقت مضي في حمل مشعل البناء والتعمير، تجسيدا للمنظومة الموضوعية والواقعية لحركية الشعوب السائرة على طريق التقدم والنماء، بدل الدوران في حلقة مفرغة تؤدي حتما إلى تكريس التوريث السياسي الضارب عرض الحائط للقيم والمفاهيم الديمقراطية المتنافية مع أبجديات الحكم الرشيد، المبني على إرادة الشعب القاضي في خياراته المصيرية، تكريسا للحقوق الدستورية في إقامة ديمقراطية حقيقية، ثابتة على أسس صلبة، قوامها العدالة والمساواة ونهجها تصحيح الماضي، عبر تغيير وسائل التسيير وضخ دماء جديدة من الطاقات المؤهلة لقيادة البلاد إلى بر الأمان، بالوسائل الشرعية للتناوب السلمي على السلطة.
لقد شكلت التعديلات الدستورية الأخيرة، منعرجا جديدا في الحياة السياسية الوطنية، من خلال مصالحة موريتانيا مع ذاتها وتاريخها المجيد، عبر تكريس رموز المقاومة الوطنية في الثوابت والمقدسات المرجعية للذاكرة الجماعية، باعتبارها موروثا جماعيا وطنيا يحمل أكثر من دلالة. مما ولد مشروعا سياسيا نابعا من إرادة سياسية، لمختلف القوى السياسية الوطنية من موالاة و معارضة، شاركت في الحوار الوطني الشامل. الشيء الذي شكل حلقة جديدة في تأسيس الدولة الوطنية المستقلة. قصد تحقيق الاستقرار السياسي مع إحداث توازن في العلاقة بين مختلف السلطات الدستورية، تكريسا للثقافة الديمقراطية التشاركية، التي تضمن للمواطن متابعة وتقييم أداء المؤسسات التمثيلية. في ظل مقاربة تسمح بتوطيد وتعميق المكاسب الديمقراطية مع صيانة اللحمة الاجتماعية وترسيخ ثقافة المواطنة من خلال الحوار كمنهج للممارسة السياسية.
إن حكمة التاريخ تؤكد أن قلة، هم القادة الذين يصنعون التاريخ لشعوبهم ويسطرون مسلكيات وعقليات، تتماشي وروح العصر، تضمن مستقبل الأجيال وانسجام كافة المكونات في نسق بنيوي متكامل الأدوار والوظائف.
لعل النهج الجديد يمضي في هذا الاتجاه الذي أراد له مهندس الحركة التصحيحية محمد ولد عبد العزيز، أن يقوم ويترعرع في جيل متعطش لأخذ مكان الريادية في قيادة قاطرة النهضة التي استلهمتها هموم الجماهير وأراد لها الله البقاء بعناية الشعب وكافة قواه الحية. فالشعب الموريتاني اليوم يتطلع لما بعد الاستفتاء الدستوري، بأمل طال انتظاره، منذ عقود كرست التهميش والتسلط والحرمان إلى التجديد المنتظر، بصبر شعب تعافي من جرح أليم، استنهض الهمم وأدرك الحقيقة، فهل يتحقق الوعد؟