تهميش الخبراء

ثلاثاء, 28/01/2020 - 15:56

لا مراء في أهمية تجنب المحاباة في التعيين والتكليف الرسمي لأن عدم التقيد بمعايير موضوعية لانتقاء أطر القطاع العام وتهميش الخبراء لأسباب ذاتية من أسباب ضعف الأداء الإداري المفضي لتباطؤ عجلة التنمية في موريتانيا، وأتناول في هذا المقال الطرق المعتمدة غالبا في التعيين والتكليف الرسمي (1) قبل أن أعرض نموذجا من أعمال الخبرة التي تطلبها المؤسسات العمومية (2) تمهيدا لسرد حكاية تعاوني مع خبير وطني أيام تهميشه (3) قبل استعراض الطريقة التي رُفع بها التهميش عنه (4) وأختم باستعراض نموذج من التعيينات المبنية على أسباب غير موضوعية والمرتبطة بذات المؤسسة (5).

– 1 –

من الأخطاء الشائعة في تسيير الشأن العام الوطني تعيين أشخاص غير مؤهلين وعدم ضخ دماء جديدة في الوزارات والوظائف السامية التي تظل دُولة بين أشخاص معينين، يتنقلون بين قطاعات مختلفة تتطلب معارف متباينة، وإن كان ذلك النهج يُرضى البعض إلا أنه يؤدي لتردي خدمات المرفق والأسوأ منه أن تستحدث السلطات مراكز ومناصب لا تخدم المجتمع وأن تصرف موارد معتبرة على سبيل المكافأة.. وعلاوة على ما تكرسه هذه الممارسات من تبديد للثروة الوطنية فإن هذه التعيينات غالبا ما تكرس الظلم فقد تكون على حساب خبراء أكفاء يُستبعدون لغياب السند أو بسبب مواقفهم السياسية المحايدة أو المعارضة مع أن المتشبثين بالمثل العليا لا يخلطون في الغالب بين المسؤوليات المهنية والمواقف السياسية.

وفي هذا الإطار تم إحداث بعض المرافق العمومية المدنية وانشطر بعض الأسلاك الأمنية كي تتعدد مراكز القيادة مما يؤثر على أداء المصالح العمومية لمهامها كما فصلت في مقال: “علة انفصام المرافق العمومية في موريتانيا” الذي نشر منذ سنوات.

ولا تقتصر الحظوة على المعينين رسميا فمن الشائع مكافأة الفاعلين بإسناد أعمال أو دراسات أو تقارير تتطلب وقتا ومعارف ومهارات خاصة قد لا يجد المستفيد بدا من إسنادها لغيره لقاء جزء من الأجر.. وفي عصر شيوع المعلومات وتدفقها كثيرا ما اقتصر دور “الخبراء من الباطن” على نسخ ولصق مادة جاهزة وبهذا يتم إنفاق المال العام لقاء خدمة أو بضاعة مقلَّدة وغير أصلية والنتيجة أن الكثير من النصوص التشريعية والتنظيمية والنظم الأساسية والأنظمة الداخلية للمؤسسات والشركات عندنا مستنسخ وكثيرا ما لا يلائم مقاسات الجهة التي تقتنيه لتلبية حاجاتها.

– 2 – 

في سنة 2006 اتصلت بي إدارة المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد وعرضت علي التكفل بإعداد مشروع نظام خاص لعمال المعهد ونظام داخلي للمؤسسة ولأني لم أكن آنس في نفسي الكفاءة لإنجاز الخدمة المطلوبة وفق المستوى الذي أتمثله خاصة بالنظر للعائق اللغوي حيث كان مستواي في اللغة الفرنسية أكثر تواضعا مما هو عليه اليوم ولأن إجادة اللسان لا تكفي لصياغة نُظم تختلف في السبك والمفردات عن الأساليب الشائعة لأن تحريرها يتطلب ملكة ومهارات خاصة فكم من شخص ضليع في الأدب ومتمكن من علوم الآلة (اللغة) وغيرها لا يستطيع إنتاج تقرير مستقيم المبنى ومتماسك المعنى وكم من كاتب متميز لا يملك أن يقرض بيتا من الشعر لأن مهارات النثر والشعر ملكات ومواهب غير متاحة لجل المتعلمين ويتفاوت فيها الناس.

لذلك صارحت مدير المعهد بالعائق اللغوي الذي يجعلني غير مؤهل للقيام بالعمل المطلوب ولكنه ألح علي لقبول المهمة لاعتباره أن مستواى اللغوي مقبول في نظره ومبينا محدودية الخيارات نظرا لقلة المختصين خاصة في العاصمة الاقتصادية ولضرورة التصرف السريع مراعاة للطابع الاستعجالي المتمثل في أن التمويل مرصود من جهة أجنبية لفترة زمنية كانت قد شارفت، آنذاك، على نهايتها مبرزا ما يحمله المشروع المطلوب من أمل وفرص لتحفيز البحث العلمي في معهد يعاني من نزيف خبراء يتعين الاجتهاد لوضع حد له.. وفي نهاية الجلسة طلبت من المدير أن يمهلني حتى أفتش عن ظهير يشد أزري في إنجاز العمل على النحو الذي يلبي المطلب ويريح الضمير. وتمثَّلْتُ النقاط الأساسية في ابروفايل العون المطلوب وهي التجربة الإدارية والتمكن من الصياغة القانونية بلغة موليير وبدأت البحث عن الظهير.

– 3 – 

لا أذكر كيف تبادر إلى ذهني الإداري والوزير السابق يدالي ولد الشيخ رحمه الله الذي كان آنذاك مقيما في نواذيبو وكان شبه عاطل عن العمل لتهميشه على خلفية مواقفه السياسية المعارضة حيث كان فيدراليا لحزب تكتل القوى الديمقراطية.. كل ما أذكر أنني ترددت قبل أن أعرض عليه التعاون لأني استحضرت تجربته الإدارية الطويلة التي امتدت ثلاثة عقود وشملت مرافق مختلفة، بالمقارنة مع تجربتي المتواضعة، فقد كان يدالي رحمه الله، في سنة 1975، يُرافع أمام محكمة العدل الدولية، نيابة عن الدولة الموريتانية بينما كنت دون سن العاشرة أتهجى الحروف في الصفوف الأولى من المدرسة الابتدائية وأصبح وزيرا للعدل بينما كنت مراهقا أدرس في الإعدادية وغدا مديرا إداريا لشركة اسنيم قبل أن أحصل على شهادة الثانوية العامة بسنوات.. ولكن ما أعرف عن الرجل من حسن خلق وما يعانيه من إقصاء شجعني على أن أعرض عليه التعاون فعزمت.. لم يخيب الرجل ظني وكما توقعت استجاب لدعوتي دون قيد أو شرط.. ولأن توضيح البدايات معين على سلامة النهايات فقد اتفقنا (شفهيا) على التعاون على إنجاز العمل وتقاسم مقابله بالسوية فأبلغت المعهد بقبول المهمة وتم توقيع العقد بينه وبين مكتبي.

– 4 – 

بدأت أنا وزميلي العمل باجتماع مع لجنة تنسيق برئاسة السيد/ مامودو آليو اديا  Mamoudou Aliou Diaمدير المعهد و د. محفوظ الطالب سيدي مديره المساعد (وكلاهما غادر المعهد منذ سنوات) اللذين حرصا على حضور اجتماعاتنا مع فريق من الباحثين والفنيين السامين في مؤسسة كانت تُعد ضمن أهم صروح الخبرة العلمية في بلدنا وأكثرها تنظيما.

كانت أسابيع من العمل المستمر والمثابرة فقد كنا نجتمع في الغدو بإدارة المعهد وأطره وممثلي عماله بهدف النقاش والتشاور حول البنود المقترحة والمزايا المطلوبة ونُمضي الآصال في تحضير المواد التي ستكون موضوعا للنقاش خلال اليوم الموالي.. وبينما كان يدالي، رحمه الله، يحرر مقترحاته يدويا أو يلجأ لمن يساعده في طباعتها، كما هو شأن أغلب أطر جيله الذين لم يتأقلموا مع الوسائل المعلوماتية، ساعدتني مهارة معالجة النصوص وفق نسق Word الشائع في اقتصاد الوقت وأوراق التسويد.. وتمكنت بالتعاون مع زميلي من تقديم المشروعين المطلوبين لإدارة المعهد في الآجال المحددة ورغم إنفاق المبلغ المقابل للخدمة (الذي لم يكن طائلا) فقد ربحت تجربة هامة أتاحها التبادل المثمر مع خبير كان فاعلا في الحياة العامة منذ العقد الثاني لتأسيس الدولة. وما أذكره أن يدالي ولد الشيخ رحمه الله كان عاليَ الهمة، ولم يكن الكسب المادي أكبر همه، فقد حدثني عن رغبته في الهجرة لتعميق دراسته بعد أن كبُر الأبناء.

– 5 –

بعد التغيير في هرم السلطة الموريتانية الذي حمل الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز إلى سدة الحكم وبناء على تفاهمات سياسية بينه وبين حزب تكتل القوى الديمقراطية تم، في يوليو 2009، تعيين يدالي ولد الشيخ وزيرا للدفاع لفترة قصيرة لم يعمر بعدها للأسف فما لبث أن أصيب بعارض صحي طارئ نقل بسببه لتلقي العلاج خارج البلاد قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى في شهر أكتوبر سنة 2010.. رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته.

 

والمؤسف حقا أن الحظوة والتهميش لأسباب سياسية يعدان منهجا معتمدا لدى السلطات الموريتانية يتعين الإقلاع عنهما ولن أضطر للبحث بعيدا لأضرب مثلا لهذا التقليد السيء وإنما سأبقى حيث كنت في رحاب المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد: ففي دجنبر 2018 كان حزب الاتحاد من أجل الجمهورية يعد مرشحيه للنيابيات وعندما قرر عدم ترشيح بعض رجاله ومنهم النائب السابق الخليل ولد الطيب ارتأت السلطات البحث له عن تعويض مقبول بهدف جبر خاطره فعينته، في دجنبر 2018، رئيسا لمجلس إدارة المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد.. ومع أن ولد الطيب إطار مثقف وذو باع طويل في السياسة إلا أن تعيينه رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة علمية ينصب عملها على بحوث المحيطات والصيد ليس جلي المقصد.. وليس الإطار الطيب إلا مثالا من أمثلة كثيرة في مختلف قطاعات الدولة الموريتانية.. ومثله تعيين الأستاذ / أحمد سالم ولد ببوط (يربانه) رحمه الله الذي كان هو الآخر رئيسا للجنة العلمية للمعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد والذي أحسب اختياره غير ملائم لا للمعهد ولا للخبير فبينما يوجد من هو أكثر تأهيلا لتقلد مسؤوليات رئاسة اللجنة العلمية للمعهد من محيطيين océanographes وبحريين halieutes وابيولوجيين وغيرهم.. كان تعيين يربانه هذا تهميشا إذ كانت تتوفر لدى الدولة مناصب تناسب الأستاذ ببوط رحمه الله ويمكن أن يخدم منها وطنه بجدارة فقد كان بلا شك من أبرز فقهاء القانون الدستوري.. وربما كان الهدف من إبعاده عن المطبخ الدستوري أن يتيسر التلاعب الدستوري الذي كان الشغل الشاغل خلال العشرية المنقضية.

بقلم المحامي محمد سيد عبد الرحمن

French English

إعلانات

إعلانات