تُعد مدينة نواذيبو أو "ابور اتين" في الماضي السحيق هي العاصمة الاقتصادية للجمهورية الاسلامية الموريتانية لا تختلف المدينة عن نظيراتها في العالم فهي تتوفر على كل مقومات المدن من موقع جغرافي فريد (شبه جزيرة) إلى شعب سباق للتحضر واحتضان الآخر البعيد فضلا عن شريك الأرض والوطن الممتد من الساحل إلى الهضاب والوديان والبطاح والأنهار .
غير أن مدينة نواذيبو تعد استثناء في الماضي القريب وفي حاضرها أيضا ففي الماضي (مطلع القرن التاسع عشر) لعبت دورا اقتصاديا حيث كانت شبه دولة بكامل سيادتها حيث تتوفر على عملة خاصة بها وجواز دخول للغرباء بالإضافة إلى الحركة التجارية والنمو الاقتصادي الذي كان متمثلا في مدينة (سي جى بى) المندثرة (لم يبق منها سوى الأطلال).(1)
أما فيما يخص حاضرها فهي مدينة اتصف أهلها بالسبق للمدنية أو على الأقل الاحتكاك بها مما انعكس كثيرا على سلوك الساكنة وجعلهم أكثر مناطق البلاد قابلية للتطور والتفاعل مع المستجدات ومع الآخر ، وفعلا نجحت هذه العوامل مجتمعة في صياغة الواجهة الحضارية لكن هذه المرة من جهة القابلية لا الواقعية كما كانت بالفعل في ماضيها السحيق (قبل الاستقلال) .
وفعلا تمكنت المدينة الشمالية الساحلية في الأيام الأولى من الاستقلال أن تكون قِبلة لكل الموريتانيين الراغبين في التهجي و تعلم الخطوات الاولى نحو المدَنية والساعين للرفاه الاقتصادي والقطيعة مع الفقر والتخلف - عن طريق بوابة شاطئها الملتف على أكثر من 2000 نوع من الأحياء البحرية وفق خبراء (على رأسها الأخطبوط الذهب الرخو ) هذا بالإضافة إلى مينائها المعدني التابع للشركة الوطنية للصناعة والمعادن "اسنيم" وغيرها من الفرص التي تتيحها المدينة .
تفاعل الوافدون الجدد مع الساكنة المحلية (القبائل الأصلية) في صورة فسيفسائية ما كان لها أن ترى النور لو لا تلك العوامل الجغرافية والثقافية التي أشرت لها في مستهل هذا المقال ،لينتج عن هذا التفاعل مدينة من أكثر مدن الوطن قابلية للتطور والازدهار -هذا طبعا من الناحية النظرية- أما الواقع فيقول وبكل اللغات عكس ذلك حيث تقبع العاصمة الاقتصادية في طيات النسيان بل والإهمال يحار الباحث في إيجاد تفسير منطقي له .
في هذا المقال سأحاول تسليط الضوء أكثر على هذا الاشكال مع محاولة متواضعة لوضع تصور بمثابة خارطة طريق للاصلاح الفعال للعاصمة الاقتصادية ، بعد توافر عوامل سياسية مساعدة بقدر كبير كما لم يتوفر من قبل متمثلة طبعا في النظام الجديد بقيادة الرئيس محمد ولد محمد الشيخ الغزواني الذي فيما يبدو يمتلك إرادة إصلاح معززة بمفهوم ابداعي للفعل السياسي تجلى في عبارته الشهيرة "وللعهد عندي معنى".
في البداية دعوني أسس لهذا المقال بالمنطلقين التاليين الأول هو أنني حين أكتب عن مدينتي نواذيبو مسقط رأسي أكون في حل من شبهة "الاكتتاب" فليستْ النائحة كالثكلى والمنطلق الثاني هو أنني سأكون أكثر تركيزا على الجانب التنموي متتبعا المحاولات الاصلاحية التي شهدتها المدينة في العقود الثلاثة الأخيرة من حيث الفاعلية والإخفاق مع محاولة الخروج بخلاصة تصورية حول عوامل الازدهار وطرق التخطيط الفعال لتحقيق ذلك ، يمكن رصدها في كل من قطاع الصيد وملحقاته وقطاع المعادن والرؤية السياسية للمدينة(نواذيبو) من قبل الأنظمة السابقة .
أولا :الاصلاح على مستوى قطاع الصيد
يُعد قطاع الصيد شريان الحياة على مستوى العاصمة الاقتصادية نواذيبو والدينامو المحرك والمهيمن على كل مناحي حياة المدينة وأهلها بل وباقي ولايات الوطن باعتبار المدينة نقطة جذب والتقاء كما أشرنا سابقا
وهنا لا نبالغ حين نقول إن قطاع الصيد هو المُضغة التي إذا أُصْلحت صلحت العاصمة الاقتصادية وإذا أفسِدت –وهو الحاصل- فسدت المدينة ومن ورائها الدولة التي تعتمد على أكثر من 50 بالمائة من موازنة الدولة
إذن ،لما كانت هذه هي مكان قطاع الصيد بالنسبة لعاصمة اقتصاد موريتانيا فهل كان القائمون على الشأن الوطني يدركون هكذا حقيقة ؟
وللإجابة على هذا السؤال نقول إن سلوك الأنظمة السابقة منذ الاستقلال إلى الآن ظل يتسم بأسلوب التصدير وترك اليد الطولى للمستثمرين في تحالف يوشك أن يصيب الثروة البحرية في مقتل وعلى ما يبدو فإن هذه الاستراتيجية ما تزال هي المهيمنة على قطاع الصيد في تغافل مطلق لدعوات دعاة خلق القيمة المضافة على المنتوج البحري المصدر للأسواق العالمية وهو ما من شأنه خلق فرص عمل للشباب والنساء وبالتالي ينعكس ذلك على الجانب التنموي للعاصمة الاقتصادية وهذه حقيقة ما فتئ الخبراء (2) يؤكدون عليها في كل خرجة لكن الكلمة الفصل في القطاع تبدو لتحالف من أهل المصالح ووكلاء شركات أجنبية تغدق عليهم الجهات التي يمثلونها عمولات صعبة بنوا بها القصور واشتروا بها آلاف رؤوس المواشي !جعلتهم لا يلوون على شيء .
ظهرت هذه الطبقة التي يتهمها أهل الدراية بقطاع الصيد في الآونة الأخيرة تمثلت في ملاك بعض مصانع دقيق السمك "موكا" بالإضافة إلى تخندقهم خلف بعض الاتحاديات للصيد التي يتنامى دورها بشكل لافت.
و الاشكال هنا هو ان النظام الليبرالي المعتمد لدينا يشكل الغطاء الأخلاقي إن صح التعبير لهؤلاء ، لكن هذا لا يجعل الدولة تقف كمراقب خارجي غير فعال كما الحال في الشركة الموريتانية لتسويق الأسماك والتي بالمناسبة تواجه هجمة شرسة من قبل ذوي العمولات ولا يجدون تحرجا من إلغاء دورها بدل تفعيله لحماية عائدات الدولة وبناء الثقة لدى الشركاء الاقتصاديون الذين دفعوا ثمن ضعف الحضور للشركة الموريتانية لتسويق الأسماك (أس أم سى بى ) (3)
فعلى الدولة أن تكون أكثر حضورا وخصوصا أن تحالف المستثمرين في القطاع أضاعوا فرصا على الوطن بسبب الصورة السيئة التي أعطوها للشريك الخارجي كما تشهد بذلك عشرات الملفات القضائية على رفوف المحاكم والتي تنتهي في الغالب بخسارة المستثمر الأجنبي والاستحواذ على استثماره .
هذه الصورة علقت للأسف في أذهان العديد من المستثمرين ولعلها السبب الخفي الذي جعل مشروع المنطقة الحرة (4) يترنح رغم وجاهة الفكرة وهو ما يتطلب صرامة في تسيير قطاع الصيد ترتكز على بعدين هما :الحضور القوي للدولة وللنظام القضائي يعيد الثقة ويقطع مع السلوكيات الهمجية التي تتضرر منها الشركاء كما يجب التعامل بحذر مع بعض العنتريات الفردية التي أوقفت الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوربي في قطاع الصيد فأزمة الصيد أزمة داخلية وليست خارجية .(5)
وحتى لا نخرج من هذا المقال بصورة سوداوية وشيطانية عن المستثمرين الوطنيين فإننا نؤكد على حقيقة أن هناك مستثمرين لا يمكنا المزايدة على دورهم الريادي والوطني في القطاع فيجب البحث عنهم بل وإعادة الاعتبار لمن تضرر منهم بسبب حرب أعالي البحار التي لا ترحم الضعيف والفاقد للظهير القوي .
وليست حال قطاع المعادن بالأحسن حيث ما تزال الشركة الوطنية للصناعة والمناجم "اسنيم" تتبع نفس الاسلوب منذ تأميمها في أول ذكرى عيد استقلال وطني (6) حيث ما تزال ملايين الأطنان من المعدن الخام تجد طريقها إلى الأسواق العالمية دون أن تخصص الشركة أيا من عائداتها لإضفاء القيمة المضافة أو حتى في احداث تنمية فعالة في مدن الشمال باستثناء محاولات تفتقد للفاعلية
وبهذا الدور الخجول تعد الشركة التي يطلق عليها عملاق الحديد تجسيدا للمثل الشعبي الذي يحكي قصة الخنزير البري والشجرة التي يأكل ورقها لتقوى عضلاته ليقتلعها ويأكل ورقها فالشركة الوطنية للصناعة والمناجم تقتلع الحديد من الجبال الشم الرواسي وبسواعد أبنائها الموزعين في الغالب بين مدينتي نواذيبو والزويرات –في الشمال - لكن حظهما الغبار فقط حيث لا تنمية ولا ازدهار .
شهدت الشركة مؤخرا محاولات اصلاح لكنها كانت غير مدروسة ولوثتها السياسة التي وجدت الشركة نفسها في أتونها حيث صرفت أموالا طائلة خارج مجال اختصاصها (7) وهو ما جعلها تفقد هيبة حافظت عليها لأكثر من عقدين من الزمن .
وخلاصة القول في هذا المحور من المقال هو أن واقع قطاع الصيد مزر ويحتاج إلى غربلة أرى أن يتم ذلك وفق خلق منتدى تطويري يشارك فيه خبراء اقتصاد ومديرون سابقون ومخضرمون ممن لهم رؤية وطنية للقطاع وأن يكون هذا الملتقى برعاية الرئيس محمد الشيخ الغزواني وأن يشكل قطيعة مع الملتقيات الكرنيفالية السابقة التي دأب وزراء الصيد على اخراجها ففي تصوري أول خطوة لإصلاح قطاع الصيد هو ابعاد الوزارة عن التدخل فيه وكذلك السلطة السياسية بالمعنى التخطيطي والاستشرافي وقصر دورهما على تنفيذ توصيات المختصين (8) والتعامل معها على أنها قرارات يجب ا تنفيذها وفق استراتيجية محكمة .
وغير بعيد من الصيد والمعادن يبرز قطاع يمكن أن يكون عماد نهضة للمدينة التي هي من الناحية الجغرافية شبه جزيرة وتتمتع بشاطئ من أرقى شواطئ العالم (خليج النجمة ..) وهنا نتحدث عن قطاع السياحة .
وللمفارقة ورغم توفر كل عوامل النجاح للسياحة بشقيها الداخلي والخارجي إلا أن الواقع يشي بخلاف ذلك وتغيب أي مظاهر لذلك وبهذا تُحرم العاصمة الاقتصادية من رافد مهم من روافد الاستثمار بل وجذب المستثمرين مما يعود بالنفع على الساكنة والبلد بصفة عامة
طبعا بدا مؤخرا ظهور خجول لبعض الاستثمارات السياحية خاصة من قبل خصوصيين تفاعلوا مع إعلان المنطقة الحرة ، غير أن غياب الدعم والبنى التحتية و التحفيزات بل إن هؤلاء يشكون من ما يسمونه بدخول منشآت حكومية ومشاريع خصوصية لنافذين في الدولة على خط المنافسة (فندق اسنيم)
هذا فضلا عن ضعف الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والانترنت مما ينعكس على المعاملات الرقمية لمستثمري قطاع السياحة هذه وغيرها ،كلها عوامل شكلت الضربة القاضية التي قصمت كل محاولات الاستثمار في السياحة بل وحتى القائم منها حيث تواجه معظم استثمارات القطاع ركودا يهدد وجودها .
وكم هو مؤسف حين يفاجئك المستثمرون في السياحة باتهام المنطقة الحرة بحرمانهم من القطع الأرضية على الشواطئ في حين تجود بها يدُ القائمين على المنطقة على من ليست لهم ناقة ولا جمل في الاستثمار اللهم غير الزبونية وعائدات العمولة (كومسيوه) .
وكخلاصة في هذا الملحق –لعلي أعود لقطاع السياحة في فرصة أخرى- فإن قطاع السياحة يختلف عن قطاعي الصيد والمعادن فلئن كنا رصدنا وجودا لها وصفناه بالمراقب الخارجي فإنها تغيب بالكامل عن قطاع السياحة وتترك بذلك الحبل على القارب لهيئات شبه رسمية حولت السياحة إلى كانتونات ونوادي للأصدقاء (اتحادات السياحة ) في هزلية آن لها أن تتوقف .
ثانيا :المكانة السياسية لمدينة نواذيبو
ظلت المكانة السياسية لمدينة نواذيبو لدى الأنظمة السابقة متباينة من اهمال مطلق في عهد الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطايع إلى اهتمام لم يرق للمستوى الاستراتيجي وظل طابعه انتخابي بامتياز مع الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز الذي حاول جاهدا خطب ود سكان المدينة من خلال مشروعي المنطقة الحرة واعلان صندوق الإيداع والتمية (CDD) إلا أن اخفاق المشروعين في فترة حكمه ولد غضبا عارما تجلى في خسارته في كل الاستحقاقات الرئاسية والبلدية والنيابية وهي رسائل مباشر تعبر وبكل وضوح عن غضب المدينة بسبب الاحباط الذي أصابها وأزمة ثقة والجميع دون استثناء يشاهد مئات العاطلين عن العمل بل وحرمان عديدين من مشاريع رأت المنطقة الحرة – البنت المدللة- أنها عائق في استثمار تحول إلى سراب بقيعة .
وقد يرجع هذا الاخفاق في خطب ود سكان العاصمة الاقتصادية -وخصوصا في العقدين الأخيرين إلى فشل نظام الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز في فك شيفرة المدينة العصية ذات الهوية المعارضة ، فبدلا من التركيز عليها ومحاولة ارضائها اتسمت الإدارة السياسية للنظام السابق في حق مدينة نواذيبو بالإهمال تمثل في تولية الواجهات السياسية (الحزب الحاكم) والمناصب الإدارية (الولاة) لمن لا سند اجتماعي له أو امتداد جغرافي وثيق بها يشفع له بين يدي أبناء المدينة وناخبيها
وكانت الحال نفسها بالنسبة للجمعيات المدنية التي لم يكن لها من دور سوى منافسة رجال الأمن والمخابرات في مهامهم –كما ألمح إلى ذلك وال سابق – تكاثرت الجمعيات والمنظمات المدنية المحسوبة على النظام السابق غير أن أداءها كظهير له لم يكن مواز للأموال الفلكية التي استفاد منها قادة المجتمع المدني الموالي للنظام السابق حيث افتقد دورهم للحرفية والمهنية والجدية ويرجع ذلك إلى تدني مستويات العشرات من القائمين على الشأن المدني بعاصمة الاقتصاد هذا فضلا عن الانحراف المبين عن الرسالة النبيلة لهكذا واجهات .
إذن،من خلال هذا التحليل تتضح لنا وبدون مواربة مدى هشاشة بيت العنكبوت الذي كان يتمترس به النظام السابق وبالتالي فإن نظام خلفه محمد ولد الشيخ الغزواني إذا أراد أن يتجنب اخفاق سلفه على مستوى المدينة الساحلية فعليه أن يحدث قطيعة ابستمولوجية مع كل العناصر من أشخاص وأدوات مستعملة من طرف الرئيس السابق ولن يتأتى له ذلك –وهو المتسلح بإرادة إصلاح كانت محل تقدير من كل الفرقاء السياسيين- إلا بإتباع سياسة مسح الطاولة على النهج الديكارتي والبدء في ترتيب وإعداد عناصره فهي الطريقة الوحيدة في تصوري التي تضمن له خطف ود مدينة ظلت عصية على التطويع .
إن دوافعي لكتابة هذا المقال عوامل عديدة يأتي في مقدمتها ما لمسته وأنا ابن المدينة والعين الساهرة على كل ما من شأنه الرفع من مستواها الاقتصادي والتنموي في شتى المجالات –من رغبة للإصلاح تجلت معالمه مع الرئيس الحالي محمد ولد محمد الشيخ الغزواني أكد عليها منذ اعلان ترشحه وما فتئ يؤكد عليها في كل خرجاته هذا ما ولد لدي شعور بأن الرجل بحاجة إلى المساعدة والاسناد .
بالإضافة إلى عامل لا يقل أهمية وهو قناعتي بأن الجميع مطالب من منظور وطني أن يغتنم هكذا مناخ سياسي متوازن وذا أفق في مشاركة الرئيس الحالي خطواته الاصلاحية الواعدة والتي قد ترقى بالمدينة إلى مصاف الازدهار والتنمية بخطط حثيثة وعميقة بل على المستوى الوطني
هذان العاملان وغيرهما اضطراني لتسطير هذا المقال ليكون مسودة للتاريخ وإنارة لطريق إصلاح ننشده جميعا لعاصمتنا الاقتصادية أرى أن فجره قد لاح ويومها يفرح ويستبشر الجميع بنهضة انتظرتها مدينة عروس البحر وأهلها كثيرا ولا أجدني مخطئا حين أتوقع أن هذا الانتظار طال -كليل الشاعر العربي- على ساكنة مدينة جميلة مضيافة حباها الله بمناظر وفرص واعدة لكنها حُرمتها بفعل اخفاق الانظمة السابقة .