زرت عدة عواصم في بلدان مختلفة وكانت طبعا تلك العواصم أفضل من نواكشوط وموريتانيا، وكنت كل مرة ازداد يقينا أن المشكلة في سوء التسيير الذي تعيشه موريتانيا منذ الاستقلال وحتى اليوم، بفعل وجود الإنسان الموريتاني البدوي الذي حمل البداوة معه إلى "المدينة" وأشبع تلك البداوة بحنكة وخبرة في الفساد والكذب والخداع وحب التملك.
كنت منبهرا دائما وأتساءل متى تكون موريتانيا مثل هذه الدولة أو هذه المدينة؟ وبعد ان أعيد التفكير قليلا في الواقع الذي نعيشه أدرك للأسف أننا بحاجة لسنوات ضوئية كثيرة حتى نصل إلى ما وصلت إليه هذه البلدان، غير أنني في كل مرة أحاول وضع مجموعة من الأعذار أصبر بها نفسي على الواقع، وهو أننا شعب لم تكن الحضارة مهمة بالنسبة له، أو أن الأحكام المتعاقبة لا تريد الخير للبلد بل للزمرة الحاكمة ف
قبل أيام كنت في دكار عاصمة السنغال الشقيقة الجنوبية طبعا قبل أن أصل دكار مررت بعدة مدن وفي طريق العودة أيضا مررت بأخرى وأقمت ليومين بإحداها، خلال هذه الزيارة انتابني غضب شديد من حالنا وحال بلدنا وأيقنت فعلا أننا نعيش في "جمهورية تفرغ زينة". السنغال بلد ليست لديه ثروات طبيعية سوى الغاز الذي لم يستخرج بعد ، السنغال يهاجر عنه مواطنوه إلى أوربا من أجل العمل حتى أن معظم المهاجرين يمرون من هنا عبر قوارب الموت، السنغال لديه جالية من المهاجرين الباحثين عن لقمة العيش هنا في "جمهورية تفرغ زينة"، حتى أنهم يزاولون مهنا بسيطة جدا وبرواتب زهيدة، السنغال كنا نتندر عليها على أن اقتصادها هو الفول السوداني "كرته"، السنغال اعتمدت على التعليم والسياحة ، السنغال اعتمدت على الإنسان، السنغال اعتمدت على الوعي فنجحت، ليست السنغال كالمغرب مثلا على مستوى البنى التحتية والتطور والازدهار، إلا أنها أفضل من جمهورية تفرغ زينة ألف مرة وتسبقها بسنوات ضوئية.
ما زلت إلى الآن منبهرا من السنغال وغاضب من الحال التي عليها جمهوريتنا التي يتم تدشين صنبور مياه فيها فيكون ذلك إنجاز كبير، جمهوريتنا الذي يُتسول على حساب شعبها خارجيا في مجال الصحة والمواد الغذائية وغيرها من الخدمات فيفرح الأغبياء واللصوص ويُسوقون ذلك على أنه إنجاز أنقذ الأمة من الضلال والفقر والمرض، جمهوريتنا التي أصبحت اليوم جمهورية الجمعيات الخيرية الكل فيها اليوم صار على قارعة الطريقة يبحث عما يسد به الرمق، وإذا ظل على قارعة الطريق فإن المستقبل مظلم ولن نكون بخير.
كيف لنا أن نبحث عن استثمارات كالتي تبحث عنها السنغال ونحن يتسول على حسابنا الساسة والنخب؟، في السنغال لم يصادفني من المتسولين سوى المجانين وأطفال مدارس القرآن "آلمودات" وفي جمهوريتنا التسول قادته ساسة ومنتخبون، الكل يتسول.
في السنغال يبدوا أنهم يزرعون الغابات ويعبدون الطرقات ويبنون الجسور والمباني العملاقة والطرق السيار، الكل يعمل والمشاريع تسير بوتيرة متسارعة ليل نهار، وكل ذلك دون ضجيج، بدى الجميع وكأنهم بخير رغم أن لا موارد طبيعية لديهم.
نحن نلجأ إلى السنغال للبحث عن تعليم جيد، ودواء جيد إذن هم أفضل منا في مجال التعليم والصحة، وحتما أكثر استفادة منا في مجال الصيد البحري في مياهنا ولا شك أنهم يشغلون في المجال أكثر مما نشغل نحن، في السنغال لا توجد مصانع موكا كما يوجد في جمهوريتنا، ولا استنزاف للثروة السمكية كما يوجد عندنا، ولا تلويثا للبيئة البرية والبحرية كما في جمهوريتنا، ويبدوا أن لدى حكومة السنغال أفكارا تعمل على تطبيقها عكس حكومة جمهورية تفرغ زينة... كارثة فعلا.
بعد أن غادرت دكار أدركت أن أحكامي السابقة أو أعذاري على الأصح التي كنت أحاول أن أقنع بها نفسي، كنت فيها دائما على خطأ، فلا عذر لمن حكموا هذه البلاد طوال العقود الماضية، نعم لا عذر لهم فيما فعلوا بهذه الأرض وأهلها، كان بإمكانهم أن يبنوا مدنا أجمل من دكار وحتى من الرباط وتونس، إلا أنهم للأسف كانت أحلامهم تقتصر على بناء "جمهورية تفرغ زينة" لا الجمهورية الإسلامية الموريتانية.