هذه ثلاث آيات في هجرة إمام المرسلين عليه الصلاة والسلام، جعلها الله ذكرى خالدة – على تطاول الزمان – للحظة فارقة في مسيرة نبيه الخاتم: “إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين”… فيها من الدروس والعبر الخالدة ما لا تسعه الأسفار العظيمة على سعتها، وفيها من معاني الإيمان والتضحية، والصبر على الأهوال… ما لا يحيط به الوصف؛ وعنوانها الجامع: كيف تنتصر القلة -بإيمانها – على قلة الحيلة، وكثرة الأعداء؟
في الآية الأولى: تسجيل للحظة البداية، وكيف مكر أعداء الله بنبيه الكريم، وتدافعوا الرأي في: ما ذا يفعلون به؟ وكيف ردهم الله بغيظهم خائبين: “وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك..”
وفي الثانية: انتصار القلة والضعف على الكثرة والقوة، وثبات نبي الله عليه الصلاة والسلام أمام هول مفارقة الديار ووحشة الطريق: “إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين…”
أما الآية الثالثة: فهي آية حسن العاقبة، حيث تصور لنا باللفظ والمعنى المعجز: كيف أينع الثمر واستوى الزرع على سوقه، لما صاغ الإيمان معادن الرجال؛ فباعوا الأنفس والديار، وتجردوا من الحظوظ، وزهدوا في المتاع:“للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا…” ؛ “والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم…”
والعمل هنا سيكون على اختيار بعض ما كتبه إمام المفسرين ابن جرير الطبري قديما، والطاهر بن عاشور وسيد قطب حديثا، في وقوفهم مع معاني هذه الآيات الثلاث، واختصاره مع إضافة شواهد وتعليقات – لغيرهم – نافعة، ليكون ذلك كله لقارئه زادا وذكرى.
فإلى استعراض هذه الآيات الثلاث، واحدة تلو الأخرى، واستنطاق بعض ما فاضت به على أهل التأويل من حكمة وموعظة حسنة.
الآية الأولى: “وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ…”
هذا تعداد لنعم النصر، التي أنعم الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، في أحوال ما كان يظن الناس أن سيجدوا منها مخلصا، وهذه نعمة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم. والإنعام بحياته وسلامته نعمة تشمل المسلمين كلهم… فسلامة النبي صلى الله عليه وسلم سلامة لأمته. [1]
لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ويحبسوه حتى يموت أو ليقتلوه ويتخلصوا منه أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا.. ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله؛ على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعا ليتفرق دمه في القبائل، ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها، فيرضوا بالدية وينتهي الأمر! [2]- هل تُذكّر مؤامرة كفار قريش هذه بأختها؟ – أجل! هي كذلك، لقد حكى الله لنبيه عليه الصلاة والسلام من قبل عن قوم صالح وكيف سعوا في تدبير خطة لقتل نبيهم صالح عليه السلام غيلة: “قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون”، تشابهت قلوب المشركين وأفعالهم… وقد أدرك ورقة بن نوفل هذا بما وهبه الله من علم، فأرسلها سنة من سنن الزمان: “لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي…”[3].
إن الصورة التي يرسمها قوله تعالى: “وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ”.. صورة عميقة التأثير.. ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون.. والله من ورائهم، محيط، يمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون! إنها صورة ساخرة، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة.. فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل، من تلك القدرة القادرة.. قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط؟[4].
الآية الثانية: “إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين…“
لقد كان ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق، لا تملك لها دفعاً، ولا تطيق عليها صبراً، فائتمرت به، وقررت أن تتخلص منه فأطلعه الله على ما ائتمرت، وأوحى إليه بالخروج، فخرج وحيداً إلا من صاحبه الصدّيق، لا جيش ولا عدة، وأعداؤه كثر، وقوتهم إلى قوته ظاهرة…
ثم ماذا كانت العاقبة، والقوة المادية كلها في جانب، والرسول- صلى الله عليه وسلم- مع صاحبه منها مجرد؟ كان النصر المؤزر من عند الله بجنود لم يرها الناس، وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار: “وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى”، وظلت كلمة الله في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة: “وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا”.[5]
يقول جل ثناؤه: “إلا تنصروه فقد نصره الله “؛ فقد نصره الله على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد، فكيف يخذله ويُحْوِجه إليكم، وقد كثَّر الله أنصاره، وعدد جنودِه؟ [6]، فبيّن بأن الله ينصره كما نصره حين كان ثاني اثنين لا جيش معه، فالذي نصره حين كان ثاني اثنين قدير على نصره وهو في جيش عظيم، فتبين أن تقدير قعودهم عن النفير لا يضر الله شيئا. [7]
والسياق يرسم مشهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه: “إِذْ هُما فِي الْغارِ”؛ والقوم على إثرهما يتعقبون، والصديق يجزع – لا على نفسه ولكن على صاحبه – أن يطلعوا عليهما فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب، يقول له: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، والرسول- صلى الله عليه وسلم- وقد أنزل الله سكينته على قلبه، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له: “يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟”. [8]
ثم بعد هذه الحال من القلة والخوف والمطاردة، فقد أبدل الله نبيه من أهل مكة خيرا منهم، فما أكثر الأخبار الصحيحة المنقولة في كتب السير والآثار عن استقبال المدينة لنبي الله وصحبه، ومن أجلها وأبلغها أثرا في النفس والروح، حديث البراء رضي الله عنه، الذي أخرجه البخاري في صحيحه، قال البراء: “أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم؛ فجعلا يُقرئاننا القرآن، ثم جاء عمار، وبلال، وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحَهم به؛ حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء” [9]
يا عجبا لنقائض الحياة واختلاف الناس!
إنّ الذي شهرت مكة سلاحها لتقتله، ولم ترجع عنه إلا مقهورة؛ استقبلته المدينة وهي جذلانة طروب، وتنافس رجالها يعرضون عليه المنعة والعدة والعدد … [10]
الآية الثالثة: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم... إلى قوله: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
للفقراء المهاجرين: قال قتادة: هؤلاء المهاجرون تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر، خرجوا حبًا لله ولرسوله، واختاروا الإسلام على ما فيه من الشدّة، حتى لقد ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ماله دثار غيرها.[11]
إنها صورة صادقة تبرز فيها أهم الملامح المميزة للمهاجرين: أخرجوا إخراجا من ديارهم وأموالهم؛ أكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد والتنكر من قرابتهم وعشيرتهم في مكة؛ لا لذنب إلا أن يقولوا ربنا الله… وقد خرجوا تاركين ديارهم وأموالهم “يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً”: اعتمادهم على الله في فضله ورضوانه؛ لا ملجأ لهم سواه، ولا جناب لهم إلا حماه…
وهم مع أنهم مطاردون قليلون “يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ”.. بقلوبهم وسيوفهم في أحرج الساعات وأضيق الأوقات؛ “أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ”… الذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وصدقوها بعملهم، وكانوا صادقين مع الله في أنهم اختاروه،وصادقين مع رسوله في أنهم اتبعوه، وصادقين مع الحق في أنهم كانوا صورة منه تدب على الأرض ويراها الناس! [12]
إن الهجرة ليست انتقال موظّف من بلد قريب إلى بلد ناء، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة.. إنها إكراه رجل آمنٍ في سربه، ممتدّ الجذور في مكانه، على إهدار مصالحه، والتضحية بأمواله، والنجاة بشخصه فحسب، وإشعاره – وهو يصفّي مركزه – بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنّه يسير نحو مستقبل مبهم، ولا يدري ما يتمخّض عنه من قلاقل وأحزان…
ولو كان الأمر مغامرة فرد بنفسه لقيل: مغامر طيّاش، فكيف وهو ينطلق في طول البلاد وعرضها، يحمل أهله وولده؟! وكيف وهو بذلك رضيّ الضمير، وضّاء الوجه؟! [13]
وهذا حقا وصدقا هو ما تفيض لنا به نصوص كثيرة، تحكي حب النبي صلى الله عليه وسلم لمكة، وحزنه الشديد على مفارقتها، ومثله في ذلك أصحابه المهاجرون رضوان الله عليهم؛ فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وعك أبو بكر، وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله … والموت أدنى من شراك نعله، وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة … بواد وحولي إذخر وجليل،
وهل أردن يوما مياه “مجنةٍ” … وهل يبدون لي “شامة” و”طفيل”،
قال: اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة” [14]
“وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ“
وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار.
“وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ”.. أي دار الهجرة. يثرب مدينة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين. كما تبوأوا فيها الإيمان. وكأنه منزل لهم ودار.
“يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا”… ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين؛ بهذا الحب الكريم؛ وبهذا البذل السخي؛ وبهذه المشاركة الرضية؛ وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء… حتى ليُروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين!
“وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا”… مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع، ومن مال يختصون به كهذا الفيء، فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا، ولا يقول: حسدا ولا ضيقا، إنما يقول: “شيئا”، مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم، فلا تجد شيئا أصلا.
“وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ”… والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا، وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا، وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا. [15]
وفي هذا فاضت قريحة أبي قيس صرمة بن النجار الأنصاري رضي الله عنه، فصور حال الأنصار، وكيف آووا ونصروا:
ثوى في قريش بضع عشرة حجّة … يذكّر لو يلقى حبيبا مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه … فلم ير من يؤوي ولم ير واعيا
فلمّا أتانا واستقرّت به النّوى … وأصبح مسرورا بطيبة راضيا
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم … بعيد ولا يخشى من النّاس باغيا
بذلنا له الأموال من جلّ مالنا … وأنفسنا عند الوغى والتّآسيا
نعادي الذي عادى من النّاس كلّهم … جميعا، وإن كان الحبيب المصافيا
ونعلم أنّ الله لا ربّ غيره … وأنّ كتاب الله أصبح هاديا [16]
خاتمة
قد كان هذا غيضا من فيض، وقليلا من كثير، فالحديث عن هجرة إمام المرسلين حديث عن بداية ونهاية؛ بداية تاريخ خير أمة أخرجت للناس، ونهاية لعهد الجهالة والظلمات… منه ابتدأ تاريخ الإسلام صعودا وانتشارا في الأرض، وانتهى زمان الجاهلية والشرك وعبادة الأوثان.
“إن الهجرة لم تكن في الحس الإسلامي مجرد نجاة من عدو، أو هروب من محنة، لقد كانت الهجرة فاتحة تاريخ جديد، وكانت بالنسبة للمسلمين في الأرض ابتداء وجودهم وتاريخهم، فصار التاريخ الهجري المبتدئ في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم هو سمة هذه الأمة على مدار القرون، وبه ومن خلاله تعرف.[17]
الباحث الموريتاني :محمد عبد الله ولد سيد محمد
الهوامش:
[1] الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر 1984م،ج9/327
[2] سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق 2003م، ج3/ص1501
[3] صحيح البخاري، تحقيق محمد زهير الناصر، دار طوق النجاة 1422هـ،حديث رقم 3
[4] سيد قطب، المصدر السابق نفسه.
[5] سيد قطب، المصدر السابق ج3/ص1656
[6] تفسير الطبري، تحقيق أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة 2000م، ج14/ص258
[7] الطاهر بن عاشور، المصدر السابق ج10/ص201
[8] سيد قطب، المصدر السابق ج3/ص1656
[9] صحيح البخاري، المصدر السابق، رقم 4941
[10] محمد الغزالي / فقه السيرة، دار القلم 1427هـ، ص180-181
[11] ابن جرير الطبري، المصدر السابق ج23/ص281
[12] سيد قطب، المصدر السابق ج6/ص3526
[13] محمد الغزالي، فقه السيرة، ص166
[14] صحيح البخاري، المصدر السابق رقم1889
[15] سيد قطب، المصدر السابق ج6/ص3526
[16] سيرة ابن هشام، بتحقيق مصطفى السقا، مكتبة مصطفى الحلبي ط2 – 1955م، ج1/ص512
[17] منير الغضبان، فقه السيرة النبوية، جامعة أم القرى 1992م، ص342